طفلي الذي لن يعود .... رااااائعة
"طفلي الذي ...لن يعود"
سأستقبل ليلك الصيفي...و أفجّر عبره كلّ كلماتك التي سكنت آلامي...إنّه الحلم الممدد على سرير الانتظار...أستطيع تذكر صفحتك الأخيرة، حينما رحت أتصفح ذلك الزمن المعتقل في دائرة النسيان...غرّني الحرف الأخير...فلقنت بسماتي لعبة الانهزام...إنها الاحترافية التي ادعيتها مدة طويلة...أذكر تلك الأوراق التي كنت تضعها في ركن قصي من بيتنا الموجوع....عبرها إستطعت ان اسافر إلى متاهات الإنكسار .....هذه الغرفة المظلمة سكنتها المحاكمات طويلا...و قد علّقت عليها كلّ ضحاياك في مشانق من كلمات...بل أنّ الضحية الأولى هي أنت...ذلك اليوم حينما أحسست بحماس الحدس...اتبعت رائحة خطواتك...فوجدتّك معلقا...نظراتك تتوعد الأيام...خانتك الحياة فخنتني بالموت...لم أجد ما أعزّي به أشياءك المبعثرة سوى إعادة ترتيبها على طريقتك الفوضوية...أعرف أنّ البوليس قد أفسدوا هذا الترتيب الذي طالما أحببته حدّ العبودية...و لأنّك ورّثتني الشعور بالأشياء رحت أسطر الكلمات وفق نظام اسمك...لقد كان خطابها مثقلا بالتذمّر، و ذلك الكرسي الذي أعددته لك يوما مع فنجان قهوة قد أعيد صياغته من قرارات...كان الكرسي سبب إدانتك...أحسست بالاختناق و عندما لامست عنقي وجدت حولها عقد من كلمات ...هي كلماتك...عرفت أن الحل ليس في التخلّص منه، فذاك فعل الجبناء، بل في ممارسة الرقص صمتا...خرجت سريعا من هذه الغرفة و أغلقت الباب من ورائي، تاركة طفلنا ينشد علّه يأتي من يمتلك حس الدعابة فيتح الباب و يسكنك...فاجأني الهاتف و هو يوقظني برناته الرعبة من سبات الذكريات...كان خالدا...أراه يعتدل في جلسته الآن رغم بعد المسافة بيننا...و صوتك المسكون عبره يفجّر ألغام قلبي:
أهلا هدى!، لقد سمعت بالأمر، متأسف لما حدث...وافني الليلة عند مقهى"أشواق"، هناك العيون لا تجد ما يبصر...لديّ ما أقوله.
آه كم جدّفت طويلا حتى وصلت إلى شواطئ فكرك...ورثتني الجنون حتى تهت الطريق ...مشيت طويلا في ذلك الشارع الممل...أين تكاسلت أنواره فبان عن ظلام دامس...كان المارة يتقاذفون الحجارة...و يتبادلون التحيّات، لم أتجرأ على السؤال، فقد أفهمني نباح الكلاب الذي تعالى ما يحدث...ما أبلغ لغة النباح!!!
وصلت هناك بعد جهد كبير، فوجدت الجمهور يصلي على عتبات المقهى، حينما سألت قالوا لي: إن صلاة الجنازة تقام على روح طفلك...هرولت باتجاه خالد، أمسكت طرف قميصه و صرخت طويلا حدّ العواء:
لكنّي تركت طفلي ينشد هناك.
التفت الكل نحوي...طالبوا بإعدامي ...سمعت صوت خالد يطلع من السراب:
-خنتي الموعد فخانك الباب...انتظرناك طويلا حتى ملّ الناس لمدامع و الدعوات...تضرعوا لصوتك المخبوء حتى أجهشت بالبكاء، ففككت أغلالهم و تركتهم ينشدون...أخذ الكلّ يغنّي على طريقته سعيدا...حتى طلّ طفلك بسيفه الخشبي يتوعّد هواجسهم و ينفض الكلمات على أفواههم و يصرخ عاليا، أخذوه بعيدا فعاوده الحنين إلى البكاء...قدموا له القرابين و أعواد الثقاب فأخذ يشعل عودا عودا و لما انتهى منها جميعا...أحرق نعال ذلك الجمع...رجموه بالأوراق...و مزّقوا جسده ثم صلّوا عليه صلاة الجنازة.
-التفت إلى بناية ضخمة أمامي، كان ذلك قصر العدالة فكرت أن أرقص على نغمات أصواتهم...فشدّ انتباهي أنّ طفلي مشنوقا هناك...ركضت ثم ركضت و ظلّ خالد يركض من ورائي و يحمل المناديل البيضاء يهدي كل من يمر واحدا ثم يدعوه إلى الرحيل...حاول أن يوقفني فما استطاع...وجدت نفسي أخيرا أمام قصر العدالة ...فعرفت أن سبب مأساتي هو ذلك الطفل...طفلي معلق ينتشله الحرمان...يهديك الكون كلّ يوم لعنة الانتظار...دمّروا طفلي...و دمّروا أحلامي...طلبت من خالد أن يساعدني في فك خناقه...وجدت أنفاسا متقطعة...فتهلل وجهي...ما زال في طفلي بقايا حياة...حملته بين يدي و سرت به...كان الناس من حولي يعلقون راياتهم...و يعيدون المناديل إلى حظيرة النسيان...راعني الأمر و خفت على بقايا حياة طفلي...فلففته بأوراق كانت مبعثرة على طول الشارع...تحمل صورا لوجوه كاريكاتورية مختلفة...تأملتها طويلا حتى غاب وعي قلبي عن طفلي...حاولت أن أتجاهل الأمر...كانت الوجوه رغم اختلافها قد أنهت موتها بحياة واحدة هو طلقة من الرصاص استقرت في اللسان، خفت على طفلي...فنزعت الأوراق و طرحتها في الطريق و إذ بطفلي يتقمص أدوارهم...هناك فقط خليت عن سبيله و صعدت إلى بيتي باحثة عن قلمي...و هناك أيضا شاهدت بقع دم على صفحات الأرض...التفت ورائي و التفت أمامي باحثة عن مصدر ذلك الجرح الليلي...لم أجد شيئا...تبعني الدم حتى دخلت البيت و لما وقفت أمام المرآة هالني ما رأيت...كان الدم ينزف بشدة من لساني...لقد استقرت فيه طلقة رصاص...عرفت حينها أنّ مأساتي انتهت...و ما عليّ الآن إلا أن أتجرّد من شهاداتي و جواز سفري...لأعلن عن انتمائي إلى تلك الأوراق...تذكرت طفلي فرحت أبحث عنه، فتشت غرفة غرفة حتى وجدته يلعب بأشلاء لساني يفكك و يعيد ترتيبه وفق أبجدية الموت، فهمت الأمر...لقد كنت أول من فتح الباب عليه بعد أن أغلقته المراسيم و التحقيقات...تذكرت زوجي فأطلقت ضحكة ارتعدت لها أركان البيت...إن الموت منطق الأشياء.
غزلان هاشمي ـ المركز الجامعي سوق أهراس ـ الجزائر