بسم الله الرحمن الرحيم
عن قتادة عن أبيه رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا شرب أحدكم الماء فلا يتنفس في الإناء... رواه البخاري.
الماء كما هو معلوم روح الحياة، ولذلك قال تعالى: وجعلنا من الماء كل شيء حي فلا يستطيع كائن حي الاستغناء عن الماء، كما أن النسبة الكبيرة من الكون والإنسان وكافة المخلوقات من الماء، فثلاثة أرباع الأرض ماء، ومثلها في جسم الإنسان تقريباً، ومن هنا كانت عناية الشريعة الإسلامية بالماء، وظهر هذا بالعديد من الآيات والأحاديث، مثل عدم الإسراف في استهلاكها، والمحافظة عليها من التلوث، وكذلك آداب استعمالها كما في هذا الحديث النبوي الشريف الذي بيّن أدباً عظيماً من آداب الشراب إذ ينهى عن النفخ والتنفس في الإناء أثناء الشرب، وفي هذا الأدب يقول علماء السلف، إن النهي عن التنفس بالماء أو الشراب، كالنهي عن النفخ في الطعام، الذي ورد في حديث آخر، وذلك خوفاً من أن يقع فيه شيء من الريق فيعافه الشارب ويتقذره، هذا إذا كان الأكل أو الشرب مع أحد، أما إذا كان الشارب منفرداً فإنه يكره له ذلك، ويجب عليه الالتزام بهذا الأدب لأنه الأفضل للصحة لأنه لا يؤمن أن يظل في الإناء شيء من الماء فيشربه أحد ويتقذر منه، وفي ذلك يقول القرطبي - رحمه الله - ‘’معنى النهي عن التنفس في الإناء لئلا يتقذر به من ريق أو رائحة كريهة تعلق بالماء..’’
هكذا فهم المتقدمون الحديث، أما المعاصرون فقد أضافوا عليه معنى آخر جراء التقدم العلمي والطبي، أضاف للسابق بأن الحديث هدي كريم شرّفنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق وما توصل إليه العلماء ما يلي بإيجاز:
- إن التنفس أو النفخ في الطعام أو الشراب خروج عن الآداب العامة، ومظهر لا يليق مع مكانة الإنسان فهو مجلبة للازدراء والتقزز، وأحياناً للصغار وعدم الاحترام، ورسولنا الكريم عليه السلام سيد المؤدبين وإمام المربين، فقد سبق جميع الخلق بذلك.
- إن التنفس هو عملية شهيق وزفير، فالشهيق يدخل الهواء النقي المفعم بالأكسجين على الرئتين ليمد الجسم بالطاقة، أما الزفير فيخرج الهواء الفاسد المفعم بغاز الفحم - ثاني أكسيد الكربون - بالإضافة لفضلات الجسم الطيارة التي تخرج عن طريق الرئتين على شكل غاز التي تكثر نسبتها في الزفير أثناء المرض كما في التسمم البولي والرشوحات ونزلات البرد وأمراض الرئة وغيرها، فينتقل ذلك إلى الشراب الذي قد يشرب منه شخص آخر.
- أثبت العلم أن هناك بعض الميكروبات والجراثيم في جسم الإنسان لا تضره طالما بقيت في الجسم، أما إذا خرجت بالزفير وعادت للجسم فإنها تصبح ضارة، وعليه فإن التنفس بالماء قد يõخرج من الجسم بعض الجراثيم التي تكسب القوة والحياة من الماء، وتعود إليه عن طريق الشرب قوية ضارة.
- بالإضافة إلى ما يشعر به الآخر عند مشاهدة ذلك من تقزز وكراهية لهذا المظهر المستهجن.
- البعض يعانون من روائح كريهة بالنفس جراء أمراض اللثة والمعدة أو التدخين، فتعلق تلك الرائحة بالماء، ولذلك نهى عليه السلام في حديث آخر من الشرب من فم السقاء، أي من الإناء الكبير مباشرة. وفي حديث آخر يؤكد عليه السلام هذا النهي بصورة أخرى فيما روي عن أنس رضي الله عنه وأخرجه مسلم أن النبي كان يتنفس أثناء الشرب ثلاثاً - أي خارج الإناء - ويقول ‘’هو أروى وأمرأ وأبرأ’’ أي أكثر رياً وأكثر إبراءً من العطش والأذى، بمعنى أنه عليه السلام كان يشرب على ثلاث دفعات والمقصود أن الشرب يصير هنيئاً مريئاً سالماً من المرض والعطش والأذى.
في هذا الحديث أرشدنا عليه السلام إلى أمر هام جداً أثناء الشرب وقبله، بأن يتنفس المرء قبل الشرب، ولا يأخذ الماء دفعة واحدة، بل على دفعات ثلاث ويتنفس خلالها، وقد توصل العلماء إلى أن الشرب دفعة واحدة يضطر به الشارب إلى كتم نفسه حتى ينتهي من شربه، مما يشعر أحياناً بغصة حادة وكأنها تمزق الحلقوم، وذلك لأن طريق الماء والطعام وطريق الهواء يتقاطعان عند البلعوم فلا يستطيعان المرور معاً، ولابد من وقوف أحدهما ليمر الآخر، وعندما يكتم المرء نفسه مدة طويلة ليشرب الماء دفعة واحدة يحتبس الهواء بالرئتين ويضغط على جدرانها فتتوسع وتفقد مرونتها مع الزمن بالتدريج، ولا يظهر أثر ذلك في فترة قصيرة، فإذا أصبح الشرب مرة واحدة عادة للمرء بأن يعب الماء والشراب عباً كالبعير، تظهر عليه فيما بعد أعراض انتفاخ الرئة فيضيق نفسه لأقل جهد يبذله وتزرق شفتاه وأظافره، ثم تضغط الرئة على القلب فيصاب بالقصور، وينعكس ذلك على الكبد فيتضخم ثم يحدث الاستسقاء والأزمات في جميع أنحاء الجسم، وانتفاخ الرئة من الأمراض الخطيرة التي يحذر منها الأطباء لمضاعفاتها الشديدة.
كما أن شرب الماء دفعة واحدة قد يؤدي إلى الاختناق والوفاة، أو الشعور بالألم الشديد في الصدر والنبي عليه السلام لا يحب لأمته العناء والتعب والوقوع فريسة الأمراض، لذلك نصح لهم عدم التنفس بالماء أو الشراب، وأن يشربوا على ثلاث دفعات فيتنفسوا خلالها ويكون شرابهم أروى، وأمرأ وأبرأ ويصدق أن يقال به ‘’شراباً هنيئاً مريئاً’’